فى إطار التصورات التى تناقش الواقع الراهن وتنتهى بوضع تصور أفضل للمستقبل ، يطرح العالم الجيولوجي والمفكر المصرى د . رشدى سعيد وجهة نظر حول ضرورة تعمير الصحراء لمواجهة التكدس وارتفاع الكثافة السكانية فى الشريط الضيق حول نهر النيل ، تقوم على الاستخدام الأمثل لإمكانيات مصر من عناصر ثلاثة هى " الأرض . المياه . والطاقة " فهو يرى أن مصر غنية بالثروات الطبيعية على عكس التصور المتشائم ، وبدلا من تبديدها يطالب بضرورة حسن الاستفادة منها على الوجه الآتى :
· لا يوجد سبب واحد يجبر المصريين على العيش فى هذا النطاق الضيق ، فأمامهم المكان المتسع فى الصحراء الشاسعة التى تمثل أكثر من 96 % من مساحة مصر .
· تتمتع مصر دون غيرها من دول حزام الصحارى المدارية بنصيب أكبر نسبيا من المياه ، لوجود نهر النيل فيها الذى يتم تبديد أكثر من 50 % من مياهه ، إضافة إلى مصادر أخرى من الموارد المائية ، فالأمطار تسقط على الساحل الشمالي وإن كان بقدر محدود ومع ذلك فأن جزء كبير منها ينساب إلى البحر ، والمياه الجوفية موجودة فى مناطق عديدة من الصحراء وإن كانت بكميات محدودة وعلى أعماق مختلفة ، فإن الواجب يحتم علينا الحفاظ عليها واستخدامها بشكل أفضل ، فمن المؤكد أن مردود استخدام وحدة هذه المياه فى مجال التوسع الصناعى سيكون أكبر من مردود استخدامها فى الزراعة ، وأفضل أماكن بناء الصناعة هو ما جاور مصادر الطاقة وما جاور البحر .
والبعض يضيف إلى ذلك إمكانية الاستفادة من إعادة استخدام مياه الصرف الزراعى والصناعى والمدنى بما يوفر قدرا لا بأس به يمكن استخدامه فى التوسع الزراعى ، وحتى المياه التى تحتوى على درجة من الملوحة هناك إمكانية استخدامها فى زراعة النباتات التى تتحمل هذه الملوحة .
· البترول والغازهما عصب الحضارة الحديثة ، دون وجودهما لا يتم تعمير أو بناء ، وهما كالماء أعمدة أساسية فى تعمير الصحراء ، ونحن نعيش وسط بلدان حققت ثراء كبير من تصدير الطاقة ، مما ترك انطباع بأن الطريق الوحيد للاستفادة من هذه الثروة هو تصديرها ، وهذا أمر إن صح مع الدويلات قليلة السكان ذات الاحتياطات الضخمة من الطاقة ، أو مع الدول التى لم يصل مستواها الحضارى للقدرة على الاستفادة من هذه الثروة ، فإنه لا يصح أبدا فى حالة مصر ، فهى دولة كثيفة السكان ، احتياطاتها متواضعة ، كما أن لديها قاعدة كبيرة من العلماء والخبراء ورجال الأعمال مما يمكنها من الاستفادة من هذه الثروات محليا فى بناء قاعدة صناعية يمكن أن تدر لها أضعاف ما سوف يأتى من التصدير .
لأجل كل ذلك يطالب بضرورة جعل الأراضى الزراعية فى الوادى والدلتا محمية طبيعية ، مع أهمية وضع خطة قومية شاملة لتنمية الصحراء من أجل وقف إهدار وتبديد الأرض والمياه والثروات الطبيعية الأخرى ، وكذلك الارتقاء بنوعية الحياة لنا وللأجيال القادمة
كما قدم عالم الفلك الكبير د . فاروق الباز اقتراح إنشاء طريق بالمواصفات العالمية فى الصحراء الغربية ، يمتد من ساحل البحر المتوسط إلى بحيرة ناصر ، ولقد اختير هذا الجزء من الصحراء بناء على خبرة فى تضاريس مصر وإمكاناتها التنموية ، حيث يمتد هذا الشريط المتاخم لوادى النيل من هضبة مستوية بميل بسيط من الجنوب إلى الشمال ، كما أن الرمال تقل فيه ولا تتقاطع مع خطوط الكثبان الرملية ، وتشتد فيه أشعة الشمس وسرعة الرياح مما يسمح باستخدام هذه المصادر فى توليد طاقة متجددة فى المستقبل ، ويتضمن هذا المقترح إنشاء ما يلى :
1ــ طريق رئيسى للسير السريع يبدأ من غرب الإسكندرية ويستمر حتى حدود مصر الجنوبية بطول 1200 كم تقريبا .
2ــ اثنا عشر فرعا من الطرق العرضية التى تربط الطريق الرئيسى بمراكز التجمع السكانى على طول مساره بطول كلى 800 كم .
3ــ شريط سكة حديد للنقل السريع بموازاة الطريق الرئيسى .
4ــ أنبوب ماء من بحيرة ناصر جنوبا وحتى نهاية الطريق للاستخدامات المدنية .
5ــ خط كهرباء يؤمن توفير الطاقة فى مراحل المشروع الأولية .
ومن أهم مزايا هذا المشروع أنه يقلل من تدهور البيئة والموارد فى وادى النيل . أما المزايا والمنافع المنتظرة للمشروع فعديدة نوجز منها ما يلى :
· الحد من التعدى على الأراضى الزراعية داخل وادى النيل من قبل القطاع الخاص والحكومي معا .
· فتح مجالات جديدة للعمران بالقرب من أماكن التكدس السكانى .
· إعداد عدة مناطق لاستصلاح الأراضى غرب الدلتا ووادى النيل .
· توفير مئات الآلاف من فرص العمل فى مجالات الزراعة والصناعة والتجارة والإعمار .
· تنمية مواقع جديدة للسياحة والاستجمام فى الصحراء .
· الإقلال من الزحام فى وسائل النقل وتوسيع شبكة الطرق المحلية .
· تأهيل حياة هادئة ومريحة فى بيئة نظيفة تسمح للبعض بالإبداع فى العمل .
· ربط منطقة توشكى وشرق العوينات وواحات الوادى الجديد بباقى مناطق الدولة .
· خلق فرص جديدة لصغار المستثمرين للكسب من مشروعات فى حقول مختلفة .
· مشاركة شريحة واسعة من الشعب فى مشاريع التنمية مما ينمى الشعور بالولاء والانتماء .
· فتح أفاق جديدة للعمل والتمتع بثمار الإنجاز فى مشروع وطنى من الطراز الأول .
· خلق الأمل لدى شباب مصر وذلك بتأمين مستقبل أفضل لهم .
ويطالب د . الباز بأن تكون وسيلة إنجاز هذا المشروع عن طريق القطاع الخاص ، ويقدر أجمالي تكاليفه بحوالى 24 مليار دولار ، وهذه يمة ليست بالكثير فى الوقت الحالى لاسيما أنها تؤمن مستقبل شعب بأكمله ، وتنقذ مصر من الوضع الاقتصادى المتردى فى هذا الوقت بالذات ، وربما تمكن المستثمرين من تأمين المبلغ المطلوب عبر بيع الأراضى الصالحة للأعمار على جانبى الطرق العرضية فى بداية المشروع .
كما يطلب دراسة مستفيضة لهذا المقترح بواسطة أهل الخبرة فى المهن والتخصصات المختلفة ، ويا حبذا أن يكون من يقوم بالدراسات المطلوبة خبراء فى مراكز الأبحاث والجامعات بدعم من القطاع الخاص حتى نتحقق أن المقترح يتم تقيمه جديا بعيدا عن الصيغ الرسمية ، ويحب مناقشة هذا المشروع الحيوى على أوسع نطاق لتهيئة الرأى العام به ، و عرضه فى البرلمان لسن القوانين واتخاذ الإجراءات التى تحمى المنفذين من الروتين الحكومى أو استغلال بعض العاملين فيه من القطاع الخاص .
ربما تكون هذه الإطروحات والمقترحات سبيلا لتغير الواقع المتردى فى مصر ، وهذا يتطلب جهاز دولة راغب وقادر على تنفيذ مثل هذه المقترحات ، وفتح المجال أمام المجتمع المدنى أحزاب ومنظمات أهلية وقطاع خاص للمشاركة الفعالة ، ولن يتم ذلك إلا بقدر ارقى واجود من التعليم والبحث العلمى الجاد والمبدع ، فالتعليم الجيد والبحث العلمى المتصل بالواقع هما عاملان فى غاية الأهمية فى رفع كفاءة استخدام الموارد والحفاظ عليها من التدهور ، والأمر أولا وأخيرا مرهون بقدرة الإنسان المصرى على الفعل والعمل والإنتاج .
ثالثا : سيناريوهات التطورات والمتغيرات الطارئة
التغير هو السمة السائدة فى الكون والوجود والواقع ، شهدت القرون السابقة تغيرات وتطورات عديدة وعميقة ، وشهد القرن الماضى تغيرات وتطورات أكثر عمقا وأسرع وتيرة ، وتؤكد الدراسات العلمية أن حجم التغير والتطور سيكون أكبر وأكثر سرعة فى المستقبل فى مجالات عديدة ، ويمكن اختصار هذه المجالات فى الآتى .
· فى المجال العلمى والتقنى : فى مقدمة كتابه الهام " رؤى مستقبلية ـ كيف سيغير العلم حياتنا فى القرن الواحد والعشرين " يخلص " ميتشو كاكو " إلى أن هناك ثلاث ثورات علمية ستغير العالم من حولنا بشكل لا يمكن تصوره هى :
1ــ ثورة الكمبيوتر والاتصالات : والتى ستعطينا القدرة على وضع الذكاء فى كل جزء من كوكبنا .
2ــ ثورة علم البيولوجيا الجزيئية : التى ستعطينا القدرة على تعديل وتخليق أشكال جديدة من الحياة .
3ــ ثورة نظرية الكم : التى يرى أنها أكثر الثورات الثلاث عمقا والتى ستعطينا القدرة على التحكم فى المادة ذاتها .
· مجال التغيرات الطبيعية والمناخية : هناك تنبؤات تأخذ قدرا من الوضوح ودرجة أكبر من احتمالية الحدوث كلما تقدمت الدراسات العلمية ، تجمع عن تغيرات فى درجة حرارة كوكب الأرض ، سوف تؤدى إلى تغيرات فى الطقس والمناخ وشكل الطبيعة والعلاقة بين اليابس والماء فى قارات العالم ، لقد تعرضت الحياة منذ تشكلها على سطح الأرض وفى مسارات تطورها وارتقائها لكائنات دقيقة ونباتات وحيوانات وبشر لتغيرات كبيرة ، عصور جليدية ومطيرة وعصور جفاف وحرارة ، غازات مرتفعة تهلك بعض أشكال الحياة ، وفترات معتدلة تنمو فيها وتتنوع أشكال أخرى من الحياة ، وصمدت وتطورت الحياة فى كل هذه العصور وتحملت مثل هذه التغيرات على ظهر الأرض ، وليس بجديد حدوث تغيرات طبيعية ومناخية أخرى فى المستقبل وعلى الإنسان أن يطور من قدراته فى مواجهة الطبيعة مثلما فعل ذلك فى عصور غابرة .
· المجال السياسى والاجتماعى والاقتصادى والثقافى : فى القرن الماضى حدثت تغيرات بالغة العمق أدت إلى انقلاب موازين القوى وخلق أبنية وقواعد جديدة ، فى النظم السياسة والاجتماعية والأسس الاقتصادية والسياقات الثقافية على النطاق العالمى والأقليمى والمحلى ، وليس من المستبعد أن تحدث تطورات وتغيرات أخرى فى الفترات القادمة سيكون لها دور وأثار شاملة على بنية المجتمعات ، اعتقد أنها ستخلق عالما أفضل يتيح للبشر قدر أكبر من الخيارات وفرص الحياة الكريمة ، وتحقيق قدر أوسع من العدالة والحرية والديمقراطية ، فالعقل الإنسانى فى ارتقاء وتطور ، والتاريخ شاهد على أن مسيرة البشرية فى تقدم وسعيها دائما لتوسيع سبل الحياة الأكثر رقى لقطاع أكبر من البشر .