مقدمة :
الإسلام بوصفه الرحمن المهداة إلى البشر من رب العالمين ، هذا الذي أراده الله نظاما يحكم حياة الإنسان في كلياتها وجزئياتها ، هو نظام صلاح ونظام "صحة" .. وأن الصحة بمعناها الواسع الشامل هي هدف رئيسي من أهدافه .. والصحة بمعناها الواسع تشمل كل معاني الاستواء والتوازن ، وهي في معناها الشامل تستوعب حياة الإنسان بكاملها : جسما وعقلا وروحا ، وخلقا وسلوكا ، فطرة واكتسابا .
والفرد ، وهو اللبنة الأولى للحياة الإنسانية، يحظي بقدر هائل من اهتمام هذا النظام الفريد ويعطي عناية خاصة لينشأ "سليما صحيحا " وبه متجمعا يتحقق المجتمع "السليم الصحيح " تلك السلامة والصحة التي يهدف إليها الإسلام وهي سلامة وصحة ذات مفهوم تعجز كل النظم الأخرى عن استيعاب جوانبه فضلا عن محاكاته.
ومن هذا المفهوم يأخذ "الطب الإسلامي" معنى مغايرا لمفهوم الطب المعاصر الذي اكتسبناه من المفهوم العربي الحديث للطب ومن هذا المنطلق يأخذ الطب مساحة أشمل في حياة الفرد ويتشعب دوره في حياة المجتمع أكثر بكثير من دوره المحدود على اتساعه في واقعنا الطبي اليوم ذلك الذي يعتني بصحة الفرد الإنساني في حدود دائرته المادية فقط ، سواء جسميا أو عقليا أو نفسيا .
والطبيب المسلم له دور، بل عليه واجب كبير متعدد الجوانب ، يبدأ من نقطة جذرية أصيلة في المفهوم الإسلامي للإنسان والحياة. هي تلك الوحدة المتكاملة المتمثلة في الوجود الإنساني ذاته والتي نجمع في كيانه طرفي النقيض في توازن متسق بديع والتي تحلق بروحه في السماء وهي تضع قدمه على الأرض، وتجعل من وجوده الدنيوي ووجوده الأخروي وحدة متناسقة ، وبذلك تخرج منه عالما شاملا ، يحتاج لصحته علاجا شاملا متوازنا ، لا يفصل جسده على روحه ، ولا فكره على قلبه ، كما يفعل طب العلم المادي المسيطر على عالم اليوم ، وهذا كله يجعل واجب الطبيب المسلم أولا وقبل كل شيء ، ربط مفهوم "الصحة" في العلم الطبي الحديث ، بمفهوم "الصحة" بكل سعته الشاملة التي جاء به الإسلام .
هذا الهدف ، أو هذا الواجب يستلزم ابتداء أن يتحقق وجود " الطبيب المسلم " أو على الأصح " المسلم الطبيب " .
والطبيب المسلم هو قبل أن يعرف الطب علميا وممارسة عملا هو " فرد مسلم " متميز عن أقرانه في المجتمعات غير الإسلامية ، فهو إنسان قد عاش نعمة " الاستواء الصحي " عقيدة وخلقا وسلوكا ، وتكيف بهذا الاستواء والشمول ، وأصبح مهيأ بتكوينه هذا أن يجعل من علمه الطبي الحديث ـ وهو قاصر رغم منجزاته الهائلة ، بسب انفصاله عن الحقيقة الكبرى ـ علما شاملا يأخذ بيد المريض ، بل بيد الإنسان كله إلى " الاستواء الصحي " المنشود للحياة الإنسانية ، علما يربط المكتسبات العلمية المحدودة بالعلم الرباني الواسع الذي أهداه الله للإنسان عن طريق أنبيائه صلوات الله عليهم ، وكما جاءنا في صورته الأخيرة على يد محمد صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا ، وفي القرآن الكريم وفي سنة رسوله الكريم ما يفتح للطبيب آفاقا واسعة إلى علم هذا الاستواء الصحي المنشود .
وإذا تيقن الطبيب المسلم أن "الاستواء الصحي" بمعناه الواسع هو الذي يصلح حياة الفرد الإنساني ، ومن ثم حياة المجتمع البشري فإنه يستطيع أن ينشيء طبا يكون فتحا في عالم الطب ، ونورا يهدي إلى البشرية التي تتخبطها ظلمات الحياة رغم منجزات العلم الهائلة .
وأحب في هذه المقدمة عن (دور الطبيب المسلم في نشر تعاليم الإسلام من خلال رسالته الطبية " وقبل أن أدخل في تفاصيل هذا الدور وشروطه أن اشير إشارة سريعة إلى الفارق الجذري بين هذا الدور وبين الدور الذي كثيرا ما يوكل إلى الطب في البلاد التي تعتنق نصرانية الكنيسة . هذا الدور التبشيري العنصري الذي يهدف إلى الهدم لا إلى البناء ، كما صرح بذلك الأب زويمر ، والذي يجند الطب وهو مهنة إنسانية نبيلة في هذا الهدف التخريبي الذي يفسد القلب والروح في مقابل إصلاح مضغة في الجسد ، ويقوم بدور أقرب أن يكون نوعا من اللصوصية المقنعة . دور الطبيب السلم ولما يجب أن يتميز به:
فيما سبق من الحديث في هذه المقدمة ذكرنا بإجمال ثلاث مسائل هامة إحداها تتو ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد بالطبيب ، والأخرى تعالج موضوع الطب ذاته ، وأما الثالثة فتلمس الهدف المرجو من وراء وجود طب إسلامي وطبيب مسلم ، وفي عالم مزدهر " بالعلم " ومزهو بما عنده من العلم ، مليء بالأطباء الجهابذة في كل تخصص ، هذا العالم الذي نراه أفقا نحاول اللحاق به . وفي هذا القطاع من البحث سنحاول أن نرسم ملامح مفصلة لهذه المسائل الثلاث ، نبدؤها بالحديث عما يجب أن يتميز به الطبيب المسلم ليكون صالحا لأداء دوره الإسلامي من خلال أداء رسالته الطبية .
ولقد أشرت إشارة سريعة إلى أن أول ما يتميز به هذا الطبيب أن يكون " مسلما طبيبا " لا طبيبا مسلما " فحسب ، وهذا يعني الكثير .
يعني قبل كل شيء أن يكون هدفه الأول هو الإسلام ، وأما الطب فهو وسيلة لخدمة هذا الهدف أولا ، ثم لكسب عيشه في حياته الدنيا ثانيا ، مدركا بذلك قوله تعالى : " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " .
ويعني أن يكون قد أعد إعدادا صحيحا كافيا وواعيا ، بحيث يكون مدركا لحقائق الإسلام ، عقيدة وتعاليم وخلقا وسلوكا وهدفا ، فلا يكون إسلامه مجرد عواطف مشبوبة لا تؤدي دورا إيجابيا في واقع الحياة وإنما يكون مدركا بعمق وعيه وسعة ثقافته موضعة في الأرض وموقف العالم منه ، عارفا بحقيقة دور الإسلام للبشرية ومطلعا على آفاق المعركة الدائرة بين الحق والباطل ، بين الإسلام ومبغضيه ثم يكون مع ذلك كله محققا للإسلام في ذاته أولا وفي أسرته ما أمكنه ذلك ، ملتزما بتعاليمه متخلقا بخلقه .
ويعني أن يدرك حق الإدراك مهنته الطبية ـ وإن كانت هي وسيلته للعيش ـ هر رسالة إنسانية بالدرجة الأولى ، فلذلك مقتضى من مقتضيات إسلامه وقد علمه إسلامه خلقا وسلوكا واعتقادا متميزا في هذا المجال ، علمه أن الرزق بيده الله ، و " إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين " ، ولا يجوز للإنسان أن يفقد أخلاقياته الإنسانية طلبا لرزق مقدور عند الله من قبل .
وعلمه أن عملا للخير يبتغي به وجه الله هو خير له من ذلك الرزق العاجل في العمر القصير : " ما عندكم ينفد وما عند باق " " من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فؤلئك كان سعيهم مشكورا " .
وهو يعني كذلك أن يكون متواضعا بعلمه : " تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا ".. وقد علمه إسلامه قبل أن يكون طبيبا ، وعلمه من خلال دراسته لطلبه وممارسته له مدى ضآلة علمه بالقياس إلى علم خالق هذا الكيان المعجز : " ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " .
كذلك فإنه مقتنع تماما بمدى عجز قدرته ـ وإن بدت هائلة بما وهب الله الإنسان من قدرات بالقياس إلى قدرة الخالق المدبر الذي بيده الصحة والمرض ، والحياة والموت : " تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير " " ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما " .
ثم فلقد علمه إسلامه أن المريض في حاجة إلى عطفه ورعايته مع علمه وقدرته لأن المرض ضعف ، والضعف موضع اعتبار وتقدير وعطف في المجتمع الإنساني الذي يريده الإسلام فيخالف به مخالفة جذرية مجتمع " الغابة " الذي تنشئه الجاهلية والذي لا يقدر غير القوة : " الضعيف أمير الركب " ( المسلون يسعى بذمتهم أدناهم ) .
كذلك هو يعني بالضرورة أن يكون الطبيب متمكنا من عمله الطبي ، بارعا فيها ما ستطاعت طاقته ، فإنه يعرف يقينا أن افسلام دين تفوق وقوة ، وأنه أنزل من عند الله ليكون نبراسا للبشرية ، ويكون أهله قادة للأرض ، شهداء عليهم : " وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا " . ولن يكونوا ذلك النمط القائد إلا أن يكون في حوزتهم علم الدين والدنيا فهما في المفهوم الإسلام علم واحد ، هو علم عمارة الأرض بأمر الله وفي سبيله ، والآيات القرآنية والأحاديث الشريفة التي تحض على العلم كثيرة ، نذكر منها القليل شاهدا على ما نقول : " يؤتى الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب " ، ويقول الرسول الكريم : " فضل العالم على العابد كفضل البد ليلة التمام على سائر الكواكب " . " قل هل يستوي الذي يعلمون والذين ولا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب " . ويقول : " اطلبوا العلم ولو في الصين " ، ويقول كذلك : " من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة " .
ومن أجل ذلك يرفض الإسلام ذلك النمط من الطب والأطباء المتقوقع داخل ذاته لا يعلم من أمر الدنيا إلا القليل ولا يعلم من أمر دينه غير الأقل ، ولقد اكتسبنا هذا النمط من الطب والأطباء من الطب الغربي الحديث الذي يزداد تقوقعا وتجزءا كلما تقدم في " العلم " وكلنا يعرف كيق كان حال الطبيب في تاريخنا الإسلامي، وكيف كانت مساحة المعرفة بين علمه وفنه التقني ، وبين مجالات الثقافة الواسعة والوعي الإسلامي الصحيح فالتكامل والشمول صفتان منبثقتان انبثاقا مباشرا من الإسلام وهما ملازمتان لشخصية المسلم " الصحيح " فهما في الطب ألزم ، لأن مهمة الطب والطبيب هي المشاركة الفعالة في أيجاد الإنسان " الصحيح " سواء بعلاج المرض أو تفادي وقوعه علاجا لا يعتمد فقط على التحديد القاصر لمفهوم الصحة والمرض في العلم المادي ، ولكن بمعناها الشامل المتكامل كما يبدو من خلال المفهوم الإسلامي .
وأخيرا فإن تعبير " المسلم الطبيب " يعني بالضرورة أن يكون هذا الطبيب قدوة صحيحة ممثلة للإسلام خير تمثيل بواقعه كله ، فما أسوأ أن ينفصل القول عن العمل ، والواقع عن المثال ، وما أخطر النتائج التي تترتب على مثل هذا الانفصال ، في الدنيا على مرضاه وتلاميذه ومعاونيه في العمل ، وفي الآخرة حيث يكون المقت الشديد عند الله والعياذ بالله ، فهو الذي يقول : " يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ملا تفعلون " .
ذلك النموذج الإنساني الرائع متمثلا في طبيب هو الذي يستطيع حقا أن يأخذ بيد المريض إلى الشفاء ، شفاء الجسد والروح في آن بما يسر له الله من علم ناف للجهالة ومما وفقه إليه من رفعة إنسانية محببة إلى القلوب .. هذا الطبيب هو الذي يستطيع أن يقود مريضه إلى معرفة الله الحق ، ككل صفة من صفاته التي أسلفنا الحديث عنها تقوم بدورها في الأخذ بيد المريض في هذا الطريف ، وسوف نعود إلى ذلك إن شاء الله حين نتحدث عن الهدف المرجو من وراء وجود طب إسلامي وطبيب مسلم .
والآن فما هي المكونات الخاصة التي تكفل نشأة هذا الطب الإسلامي ، هذا الذي يدرك مفهوم " الصحة " على وجهها الواسع الشامل ، ويدرك مفهوم " المرض" كذلك في حقيقته الجذرية لا في مظاهره المحدودة ؟ .
إن نشأته لن تكون إلا بمعرفة حقيقية " بالإنسان " وبالتالي معرفة واعية مما يصلح حياته وما يفسدها ، ومفهوم المرض والصحة في حقيقته عميق الارتباط بصلاح الإنسان وفساده ، وبصلاح أوضاعه الاجتماعية والأخلاقية ، بل أوضاعه الاقتصادية ـ والسياسية كذلك ، بغير هذه الفواصل التي تفرضها تخصصات العلم الحديث .
ولذلك فمع فساد الحياة البشرية في عالم اليوم لا يكون دور الطبيب إلا المحاولة المستميتة لتنظيف المصب الذيب يمتليء كل لحظة بأدران المنبع ! وها هي مجموعة الأمراض المستشرية حديثا شاهد على ما أقول ، فالفساد الخلقي في أبشع صوره يلقي إلى الطب بأدرانه ، فلا يكون دوره فيها إلا المحاولة الدائبة وإيجاد " العلاج " علاج الناتج لا علاج الجذور ، علاج ظاهرة المرض لا علاج مسبباته أي تنظيف المصب إن أمكن ذلك ، لا تطهير المنبع والتغلب على المرض تغلبا حقيقيا !
والكثير من الأمثلة على هذا تملأ ، ولنأخذ مثلا السجائر أو الكحول ، أو الفوضى الجنسية ، أو ما لا يحصى من صيغ الحياة " الحديثة " وما تجر إليه من أمراض ناتجة أساسا من تلك المنابع ومن رهق التوتر العصبي وثقل الحياة الحديثة وضراوة الصراع فيها .
إن نشأة طب حديث إسلامي ، مزود بمعرفة حقيقية " بالإنسان " وهو ما لا يمكن أن يتوفر إلا عن طريق الدين الذي يملك أن يزودنا بهذه المعرفة ، لأنها آتية من عند العليم الخبير الذي خلق ويعلم من خلق ، ويعلم ما يصلح حياة هذا المخلوق وما يفسدها : " ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير " " ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد " … هذا العلم الذي يرسم لنا في يسر الطريق التي تهب لهذا الإنسان " الصحة " بمفهومها الشامل كذلك .
إن طباً من هذا النوع سوف يكون فتحا في حياة البشرية ، وسوف يكون جزءا من رسالة الإسلامي للعالم ، ومساهمة فعالة في صياغة الحياة البشرية صياغة جديدة ، تعين الإنسان على الوصول إلى الصحة وتجنب المرض بالقدر الذي يسمح به وجوده الرضي ، إنها سوف توجهه إلى أصح صورة يمكن أن يمارس بها حياته ، وفي الوقت ذاته تعطي مفهوما صحيحا " للمرض " حين يكون جزءا من قدر الله ولا دخل للفساد البشري فيه ، يخفف كثيرا من وطأته فيحوله من لعنة ينوء بها الإنسان إلى ابتلاء واجتباء يتقبله القلب بالرضاء والتسليم ، وهي مشاعر تساعده مساعدة فعالة في الشفاء ، ويكفي المريض المسلم أن يستمع إلى قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : " ما يشاك المؤمن من شوكة فما فوقها إلا حط الله عنه بها خطيئة أو رفعه بها درجة " .
هذا الطب الإسلامي، الذي هو أول واجب من واجبات "الطبيب المسلم "، وإن شئنا تعبيرا أصح نقول "الأطباء المسلمين" ذلك لأنه عمل جماعي لا يستطيع أن- يقوم به الفرد مهما تكن قدراته، هذا الطب يقوم على دعامتين أساسيتين: الدعامة الأولى. هي "الإيمان بالله وحده " حسب المفهوم الإسلامي النقي من كل شائبة ، بما ينبثق تلقائيا عن هذا الإيمان من يقين بالآخرة وبالقدر خيره وشره ، هذا الإيمان الذي يضع الحياة في حجمها الحقيقي في القلب البشري ، فليس النقص فيها والحرمان من بعض متاعاتها ، ومنها الصحة ، ثقل ينسحق الإنسان تحته وعامل فعال من عوامل استفحال المرض وتعذر شفائه.
فأما الدعامة الثانية فهي " الإسلام" بمعنى الخضوع الكامل لبرنامج الحياة الذي رسمه الله للناس رحمة منهم في دنياهم وآخرتهم : " ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون " .. ذلك البرنامج الذي جاءت ـ أساسياته ثم الكثير من تفصيلاته في القرآن والسنة ، والذي لو اتبع حق الاتباع لأنشأ حياة صحيحة حقا يكون المرض فيها هو الاستثناء لا القاعدة ، ويكون الشفاء من المرض فيها ـ حين يحيا ـ أقرب وأيسر ، ولا يكون فيها المرض الذي لا يتحقق شفاؤه فيكون كارثة تنقل كاهل الفرد والجماعة.
ذلك بأن هذا البرنامج بما حمل من نظام متكامل للحياة ، قد جفف ـ قدر ما تسمح طبيعة الحياة في الأرض ـ منابع المرض . والأمثلة على ذلك كثيرة في كل مجالات الطب لا نملك أن نحصيها هنا ، فهي تكون بحوثا مستقلة ولكننا نستطيع أن نضرب لها بعض الأمثال … ولنأخذ مثلا شرب الخمر الذي حرمه الإسلام تحريما قاطعا ، كم من الأمراض يعود إليه مباشرة . وكم من الأمراض يكون هو سببا في استفحالها ؟ وكم منها تكون الخمر سببا في تقليص نسبة الشفاء منها أو إطالة العلاج . وما نقوله عن الخمر نقوله عن كل مخدر مما هو منتشر في الأرض اليوم نتيجة طبيعية للفساد الناشيء من تجنب طريق الله ونقوله كذلك عن السجائر التي هي أكثر الموبقات ـ انتشارا وأيسرها تداولا .
فإذا تتبعنا أوامر القرآن ووصايا الرسول صلى الله عليه وسلم في الطعام والشراب مثلا سواء من حيث الكم أو الكيف من كف عن الإسراف ، أو تحريم لكل ما هو ضار من الطعام فكم نجد لهذا النظام المحكم من فضل على الإنسان ومن صلات فاعلة في أمر الصحة والمرض ؟ .
كذلك لد تبينا ما في نظام النوم والصحو من تأثير الصحة والمرض ، ولو فحصنا نظام الصلاة والصوم والوضوء والغسل ، ولو بحثنا في نظام الزواج والحياة الجنسية ملها من خلال تعاليم القرآن والسنة ، من تحريم للواط ومنع للزنى بكل صوره من توصية بالتبكير بالزواج ، وإتاحة السبل إليه وتيسيره اجتماعيا واقتصاديا ، ولو تفحصنا النظام الإسلامي في كل جوانبه ومحاولته البارعة لإنشاء حياة يغلب فيها الأمن والعدل والاستقامة ، لو تبينا كل ذلك بالصحة والمرض عرفنا كيف يمكن أن ينشأ في الأرض " علم طب إسلامي " تتفوق فيه برامج الطب الوقائي على كل ما عرفه علم الطب الوقائي في عصرنا الحاضر ، وتكتمل فيه جوانب النقص في الطب العلاجي الحديث هذا النقص الذي يتبع حتما ا النقص في معرفة "الإنسان " ورؤيته كوحدة متكاملة لا تنفصل مكوناتها الرئيسية .
هذا الطب الإسلامي حين يوجد ، يكون وجوده بذاته دعوة إلى الطريق المستقيم ونبراسا يهدي البشر إلى الإسلامي ، سبيله الحق ، ويكون هذا دوره الأول في حياة البشرية ، ويأتي دوره الثاني ، وهو دور مهم كذلك هو إصلاح الحياة في مجال الصحة والمرض وهذا جزء لا يتجزأ من عبادة الله بعمارة الأرض بتوجيه من الله .
أما كيف يصل الطبيب المسلم من خلال أداء دوره الفردي إلى الأخذ بيد مريضه إلى الطريق الموصل إلى الله فقد بينا ونحن نتحدث عن الشروط التي يجب أن تتوفر فيه ، الكثير منها ، ذلك أن تلك الصفات التي أسلفنا ذكرها لها دور فعال ، كواقع حي للإنسان المثل . في الوصول بقلب المريض إلى الله وإلى طريقة الحق ، ذلك أن الإنسان في حالة المرض يكون أقرب ما يكون نفسيا إلى تلمس الحق . هذا الحق الذي يتوارى بعيدا عن القلب في عنفوان القوة والصحة : " كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى " . " وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه " .
ولكن هناك جوانب أخرى أيضا ـ غير هذه المتحققة في شخصية الطبيب ـ يجب عليه أن ينتبه إلى أدائها حق الأداء في أثناء التعامل مع مرضاه نذكر منها .
أن يحاول قدر ما يسمح له الوقت المعطى للمريض أن يدخل عقله وقلبه المفاهيم الإسلامية الصحيحة " للمرض والشفاء " .. " والحياة والموت " .. فارمض ليس لعنة ، وليس بالضرورة عقوبة ، ولكنه ابتلاء تكفير أو رضاء وهو في الحالين خير ، ويطمئن القلب ويهديء الجزع ، ويستشعر القلب قرب الله ورحمته .. والمرض جزء أصيل في كيان الحياة الدنيا لأنه جزء من المعاناة والكدح " يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه " فهو إذن وسيلة للأجر من الله إذا حقق المريض الالتزام الصحيح بالعلاج وبالصبر ، وكلها معان تقرب القلب من الله وتقوده إلى المعرفة الصحيحة بدين الله ، وحين يعرف المريض أن المرض والشفاء كلاهما أمر من الله : " تداووا فإن الذي انزل الداء أنزل الدواء " ، يستشعر القرب من الله ويعرف قيمة التوكل الصحيح عليه ، وينحسر في دور الطبيب إلى مكانه الحقيقي ، ويستيقن أن الله هو الملجأ والملاذ .
كذلك أمر " الحياة والموت " ، فهما من أمر الله " الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا " فالطب والطبيب ليسا شركاء الله في هذا الأمر إنما هما وسيلة من وسائل قدره ، دورهما هو القيام بالواجب الملقى عليهما من الله في محاولة للتخفيف من المرض وإصلاح شأن الحياة بكل ما أعطاها الله من قدرة حتى ينفذ قضاؤه بما يحب ، وبما هو الخير في كل حال .
ومن خلال هذه المفاهيم الصحيحة يستطيع الطبيب أن يقرب إلى مرضاه حقيقية التوحيد برد الأمور كلها إلى الله في حقيقتها ، ويوضع الإنسان بكل قدراته حتى ولو كان طبيبا عالما وضعه الصحيح الذي يتمثل فيه العجز والقصور البشريين ، وهي قمة في التعريف بوحدانية الله وبتوجيه القلب للتو ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد بالله الفرد الصمد ، ذلك أن المريض عادة يتطلع في حدة مرضه وخطورته إلى طبيبه ، كما لو كان بيده " الشفاء " " والحياة "! ورده إلى الحقيقة الكبرى ، وهي وحدانية الله وتفرده بالفعل ، أمر ذو خطر عظيم في رد القلب في حالات العسر إلى الله وحده الفعال . وهذا مدخل من أعمق المداخل للوصول بالإنسان إلى حقيقة الإسلام ، بل إلى حقائقه وكبراها وهي التوحيد ثم ربط قلبه بالله الذي بيده ملكوت كل شيء أمر آخر يجب أن يقوم الطبيب بتعليمه لمرضاه ونشره بينهم ، وذلك بكل الوسائل المتاحة له ، هو البرنامج الذي جاء به القرآن وفصلته سنة الرسول الكريم هذا البرنامج المؤدي إلى صحة الجسم والعقل والقلب جميعا ، فيتيح لمرضاه ثقافة صحية متميزة تؤدي إلى خير الدنيا والآخرة … خير الدنيا : عن طريق المساهمة الفعالة في الوقاية من المرض ومن ثم إنشاء عالم صحيح بدنا ونفسا وعقلا ، وخير الآخرة بالوصول للمريض إن كان مسلما إلى الاعتزاز بدينه والاستياق من حقيقة تفوقه على كل ما عداه من برامج الأرض . أو بتعريفه بالإسلام إذا كان مريضه بعيدا عنه بعدا كاملا أو جزئيا …
وقد ذكرنا بعض النماذج القليلة الواردة في هذا البرنامج وهناك الكثير غيرها مما يحتاج إحصاؤه إلى بحث مستقل وإن كنت أذكر هنا جزئية من اصغر جزئياته أستشهد بها على دقة هذا الدين وشموله اللذين لا مثيل لهما !فلنأخذ مثلا " أمر السلوك وتوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم
به : لقد أثبتت التجربة أن مستعمل السواك يظل حياته كلها سليم الأسنان وكم وراء سلامة الأسنان من سلامات في الجسد ، وكم وراء تلف الأسنان من أمراض يمكن أن تكون متلفة للبدن ؟
وهكذا يقوم الطبيب ، من خلال ثقافته الإسلامية الواسعة بنشر الوعي المقرب من الإسلام وربط قلب المريض وعقله بحقائق مجهولة اليوم في هذا الدين الحق وهو يقوم بدوره الطبيعي كطبيب ، معالجا لمرضاه وموجها لهم " الصحة " في الحياة الدنيا .
المجالات التي يمكن للطبيب أن يقوم بدوره من خلالها.
يأتي الآن دور الحديث عن المجالات المختلفة والهيئات والمؤسسات التي يمكن أن يقوم بدوره من خلالها ..
وأول هذه المجالات بالطبع هو أقربها إلى الطبيب وألصقها به ، العيادة الخاصة ، والمستشفى الخاص والعام ثم المستوصفات ، وهي الأماكن التي تكاد تستوعب الأكثرية الغالبية من الأطباء ، وكذلك من المرضى ، وفي هذه المجالات يكون الاحتكاك المباشر بين الطبيب ومرضاه هو وسيلة إلى هدفه الأول . ألا وهو الأخذ بيد مرضاه إلى صحة القلب والعقيدة وصحة الجسد المادي .
ويأتي في المكان الثاني في الفاعلية مشاركة الطبيب في أجهزة وهيئات الصحة الوقائية والعلاجية على اختلاف مستوياتها وأماكنها ، دولية كانت أم وطنية أم إقليمية ، حيث يستطيع أن يساهم بما عنده من العلم بما يجعل ذلك من تعريف بهذا الدين المنبع لهذا العلم الذي يتسم بالشمولية والعمق .
ثم محاولة إنشاء هيئات متخصصة على مستوى البلاد الإسلامية ن واختيار أطباء مسلمين تتوفر فيهم تلك الشروط التي ذكرناها آنفا ، وبذلك تتكون نواة صالحة لإنشاء مؤسسة طبية إسلامية موحدة تأخذ على عاتقها أمورا كثيرة وخطيرة ، وأولها تجميع الطاقات الإسلامية المتفوقة في مجالات الطب المختلفة لإنشاء " علم طب إسلامي " يفرض وجوده عالميا بجانب التفوق الغربي في هذا المجال هذه الأجهزة المنبثقة من منطلق موحد والهادفة إلى هدف موحد تحمل في طياتها أسباب نجاحها إن شاء الله ما أخلصت لله أعمالها . وهي بذلك تسد ثغرة هائلة في مجالات الاحتياجات الطبية في العالم الإسلامي وما أكثرها … فهي تستطيع مثلا اختيار الأطباء الصالحين للمشاركة في العمل الإسعافي أثناء الكوارث والنكبات العالمية والمحلية . فلا يترك هذا المجال كاملا إلى أطباء الغربيين كما هو سائد الآن ،. والحال في افغانستان خير شاهد على ما أقول : والبلاد الإسلامية ، كما هو واضح على خريطة العالم ، هي أكثر البلاد اصطلاء بهذه الكوارث سواء كانت طبيعية أو ناتجة عن الحروب .